رؤية حميد للتفاوض
- معز عوض أبو القاسم
- 14 مارس 2022
- 4 دقائق قراءة
الذين لم يتقبلو نتيجة التفاوض، إليكم رد الحبيب (محمد الحسن سالم حمّيد). وكأني به يبرر للجلوس للتفاوض مرة أخرى وقبول مخرجاته قائلاً : (ما قُتْ نفكر في السلامِه أنا قُتْ نقدّر للظروف أنا قُتْ شويِّ شويِّ تتواسى الكتوف الزول ده نقهرو بالغتاتِه مع الغتاتِه نفك حروف لغة الدهانه الإشتهانه وسط بلدنا نعيش ضيوف) هذه المقاطع من قصيدة (وادي أم بقر) وهي رصد وتحليل لمعركة (كورتي) والتي راح ضحيتها 30 ألف شخص حتى كادت تفنى القبيلة كلها في 11 نوفمبر من العام 1820م من قبل حملات اسماعيل باشا الذي عاث في الأرض فساداً ومثّل بالجثث . لا أحتاج لسرد المعركة التي تعلمون تفاصيلها وهي علامة فاصلة في التاريخ السوداني إذ استبسل فيها الشايقية وقاتلوا برماحٍ وسيوفٍ وقضيةٍ فاضلة ، مدافع الأتراك . كل السودان يرى أن (مهيره بت عبود) بطلة و(كنداكة) ساهمت في إرجاع الشايقية للحرب من جديد عبر هتافها الثوري ، حميد يراها أيضاً بذات البسالة والإلهام ، ولكنه هو الوحيد الذي قال لها في أكثر من موضعٍ من قصيدة وادي أم بقر ما يلي : (كر يا قِشيره) (أخفقتي يا بت الحلال) بل أنه بدأ القصيدة كلها بالحديث عن مهيرة مصوراً لها في واديٍ آخر غير وادي القضية الأساسية مع أنها كانت تنادي للرجوع لذات القضية/المعركة . (تنمارى يا وجعي العتيق نار والمهيره تحاحي كَر) الكثير قد يصدمه هذا الكلام عن مهيره وهي التي نعرف ، ولكن حميد كانت له زواياه الخاصه وكان يرى التريّث في الأحداث العظيمة أفضل من الإنقياد للعاطفة والحماسة/الحماقة . كم لزم من الوقت ومن الجرأة حتى يتحدث حميد عن مهيرة بهذه الطريقه مع احتفاظه بكل الصفات الجميلة التي أغدقها عليها في القصيدة مشيراً لشجاعتها وقوة شخصيتها ، ولكن المصلحة العامة جعلته يغض الطرف عن تصرفٍ كان يراهُ غير مناسبٍ في هذا الظرف بالتحديد . (عفواً مهيره من الصميم حوريه حره وبت حلال دغريه حاره كما الجحيم وأهلك جهنم في الكتال أيضاً عليله كما النسيم وأهلك ظليله سما الجمال بس يا وشيش بلدي الوسيم دون تدري يا بت الحلال أستغفر الله العظيم قُدتّينا لي هذا الوبال) في المقطع الأول الذي ذكرته في استهلال مداخلتي هنالك مقطع حذفته بعد أن كتبته لأن الكثيرين ما كان سيروق لهم ما قصده حميد هنا وإن كان يدعو صراحةً للاستسلام قبل التورُّط في فعلٍ قد نندم عليه لاحقاً . أتصدقون أن حميد نفسه قال يخاطب المقاتلين الذين ألهبتهم مهيره : (حين إنزنقنا المغربيه ورا الجروف ، ليش ما اتفقنا مع بعضنا رقدنا صوف ؟ ياتو البعَدنا بلا رويّه يقول ده خوف !! ونحن إتولدنا ضهر بلدنا وأهل حتوف) . ثم يكرر حميد ذات المقاطع بطريقة تأكيدية لموقفه الذي تبناه طوال كتابته للقصيدة ويكرر السؤال الصادم بطريقةٍ صريحة : (مالو إن بقينا سوا أتفقنا مع بعضنا رقدنا صوف مُش كان أقلا ولا أنقبضنا ولا أنقرضنا ولا القيامِه نشوفا شوف ؟؟) لتأتي بعضها مقاطع التبرير التي استشهدتُ بها في حديثي السابق ( ما قُت نفكر في السلامه .. إلخ) . كنت أدرك جيداً أن استشهادي بمقاطع حميد ، هذا هو المكان الأنسب له على خلفية النص الأصلي ومناسبة كتابته . ذات الظروف وذات الضحايا وذات الدم السوداني . هل هذا يعني أن حميد لم يكن يعنيه الدم السوداني ، ودم أهله تحديداً ؟؟ هل حميد يطالب بالهدنة مع القتلة والاستسلام والموت بدلاً عن النضال ؟ تنزّه الحبيب حميد عن ذلك ، ولكنها فطنته وقراءته السليمه للأحداث . يواصل حميد في نصحه للقبيلة وللعالم كله بالإلمام بحيثيات المشهد كاملاً قبل القدوم على أي خطوة خوفاً من الوقوع فيما لا يُحمد عقباه ، فها هو في ذات القصيدة مرةً أخرى يقول : (ما كان أخير لو قُلتو خير نتفادى محرقة الخَبَال) (قلتو خير) هل تقابل (رقدنا صوف) ؟؟ هل يدعو حميد للـ( إنبطاح) هنا ؟؟ لكم أن تُلبِسوا ذات القضية مع تلك القضية .. هنا ضحايا ومجزرة ، وهناك ضحايا ومجزرة . هنا تفاوض ومجلس لترتيب الأوضاع ، وهناك مجلس مكون من ثلاثة ملوك (صبير ، جاويش ، عمر) . دعني أمضي بكم إلى أكثر من ذلك ، حيث أن حميد والذي يعتبر أكثر الشعراء دعوةً للسلام والحوار ، ها هو يدعو (صفيه بنت الملك صبير) لقتل نفسها حين أسرها الأتراك وأطلقوا صراحها دون أن يمسوا شعرةً منها لكي يرمون الطعم لأبيها حتى يخضع لهم : (وإنتِ آ صفيه وكت عيون اتعقّبوكِ المغربيه وباغتوك وكت وقعتي قدُر وقفتي قبل يقوموا يكتّفوك ، ما خُفتي أصلو يتلتلوكِ ، يبهدلوكِ يزرزروكِ عن الوراكْ وبكان أبوك ؟؟ ليش ما غرستي الخنجر المسموم ومُتِّي فِدايا لينا من البشاتن وديل عدوك ؟؟) ويعود حميد لذات التكرار من جديد ليؤكد ذات المبدأ وإصراره على موقفه في تفهّم الأمور بزوايا حكيمة تجنب الآخرون شر الهزيمة لكي يخرج بأقل عدد من الخسائر ليمارس ذات (الحيله) في الحرب لكي يكسب معركته ويحافظ على أرواح جنوده ، مرةً أخرى يخاطب (صفية بت الملك صبير) التي سبَاها الأتراك : (… بعد سبوكْ كيفن رضيتي يكرموكِ يرجعوكِ ديار أبوكِ بلا تموتي !! هل أجبروكِ تصُدي حيّه ؟؟ هل أسكروك ؟؟ بالله كيف جارت عليك الظاهرِه زي شنب الخديوي دي حيلِه ماكرِه من الحرب يكْرُوبا أبوك ) . لا أظن أن أستاذي وحبيبي حِميد قد ترك لنا شيئاً نختلف عليه . فقد قال هنا كل شيء ووهبنا وصفةً كاملة لقيادة دولتنا ولإنتصارنا ، علّمنا متى نستقوى ومتى نكر ونفر ومتى نحكّم العقل بدل العاطفة ومتى نقول وكيف نقول . أنصحكم وأنصح الجميع بقراءة ملحمة (وادي أم بقر) للاستمتاع أولاً بملحمة وادي أم بقر من زوايا أهملها كل المؤرخين ، ووحده حميد تجرأ وقال ما سكت عنه التاريخ . وثانياً لنتعلم الدرس التاريخي الذي يجب أن نستفيده من هزيمة معركة كورتي التي خلّفت أكبر ضحايا في تاريخ السودان . تأملوا مرة أخرى المقاطع الأولى ، فإن دماء الشهداء حاضرةً فيها وحميد لم يدعوا لنسيانها ، بل نادى بالوفاء لها : (ما قُتْ نفكر في السلامِه أنا قُتْ نقدّر للظروف أنا قُتْ شويِّ شويِّ تتواسى الكتوف الزول ده نقهرو بالغتاتِه مع الغتاتِه نفك حروف لغة الدهانه الإشتهانه وسط بلدنا نعيش ضيوف) معز عوض أبو القاسم *ذات المقال كان سابقاً رداً على بعض الذين أحبطهم إيقاف العصيان ، مع قليل من التعديلات .

Comments