top of page
  • YouTube
  • Black Twitter Icon
  • Black Facebook Icon
  • Black Instagram Icon

إذاً هكذا يموتون !!


(مقال قديم كتبته في أواخر العام 2018م وأنا طريح الفراش بمستشفى الملك فهد بمدينة الأحساء) كيف يتخذ الشجعان قرار أن يموتوا !! قرار أن يتركوا ورد حدائقهم متاحاً لسواهم ، ويتركوا سعة هذا الكون ليختبئوا في مترٍ من التراب . أذكر أن أبنة خالتي أنجبت بنتاً وتوفت - كما قال محمود درويش - قبل أن تعرف الوالدة . حملها أبوها على ذراعيه وهي جثة طاهرة لم تعي بعدُ تفاصيل الحياة . يقول الأطباء أن سبب الوفاة هو انعدام الأكسجين . يا للعجب !! كل ذرات الأكسجين المتوفرة بالجو لا يوجد منها ما يكفي لسد رمق رئةٍ صغيرة بحجم أصغر مقاسات البالونات !! كيف لنفسٍ ما أن تموت من قلة الأكسجين ؟ هذا الهواء غير المرئي والذي تنعم به الأسماك داخل الماء وتنعم به رئة فيلٍ ضخمٍ في براري أفريقيا ، ينعدم وينفذ حين تحتاجه طفلةٍ صغيرة . حين رجعنا للبيت بعد دفنها ، كانت الأسئلة تلحُّ عليَّ باستمرار ولا أزال أفكر في جثمانها الصغير . حلمت بها تركبُ منطاداً كبيراً وعلى أطرافه مجموعة من البالونات الملونة والكبيرة . أخذت تنفخ البالونات واحداً تلو الآخر وتقذفهم نحو الأرض وهي من منصة المنطاد .. كانت بلوناتها تتحدى الفيزياء وتهبط للأسفل بدل أن تطير للأعلى . كانت رئتها المعطوبة تمتلئ أكسجيناً يكفي لنفخ كل تلك البالونات الكبيرة التي هبطت علينا مثل المطر . أخذت تلوح لي من علٍ وهي سعيدة ثم ما لبست أن طارت بجناحيها مع البالونات نحو السماء . صحوتُ من النوم سعيداً بعدالة السماء التي صعدت لها . أرقد خالياً من كل شيء وعينايا جاحظتان ممداً على سرير المستشفى . الممرضة الفلبينية تجيء وتذهب بابتسامتها الباهتة . قلت لنفسي من أين لها أكسجيناً تبتسم به !! مدّدتني على السرير وأنا أراقب يديها خوفاً من إبرة الحقن . لا أخفي خوفي من الحقنة وخوفي من تناقص نسبة الأكسجين لدي . وضعتْ حول فمي أنبوبة الأكسجين وانصرفتْ .. تركتني مستلقياً لا ألوى على التنفس . تذكرتُ محمود درويش .. بما كان يفكر قبل احتضاره . وماذا رأي غير الذي كتبه في الجدارية : (رأيتُ طبيبي الفرنسي يضربني بالعصا) تشبيه على بساطته يحكي لحظة ألم درويش وكأن طبيبه يضربه غير مبالياً بضعفه ومرضه . ترى بماذا كان يفكر محمود درويش قبل وفاته وأي القصائد كانت تجول في رأسه قبل أن تلامس الورق !! ماذا لو منحه القدر فرصة أن يقول كلمةً واحدة قبل أن يموت ، ماذا كان سيقول !!؟ ليته أُعطيَ فرصةً أخيرة بعد وفاته ليصف لنا الموت ويسكبه لنا في وعاءٍ أدبيٍ بديع . هل مات درويش أيضاً لأن رئتاه قد نضبت من الأكسجين أم أن قلبه لم يعد يقم بدوره السابق !! ما علاقة القلب بالرئة !! وأيهما أهم بالنسبة لحياتنا !! ما حوجة الرئة بلا قلب ، وما حوجة القلب بلا رئة ؟؟ ترى هل كانت رئته ستعمل لو وضعوا له قلباً بديلاً !! وأين ستذهب الرئة بعد أن يموت الإنسان ؟ ماذا لو أخذوا رئة درويش ووضعوها على جسد شارون !! أو أخذو قلب شارون ووضعوه على جسد درويش ؟؟ حتماً كان شارون سينحني ليصلح رباط حذاء لاجئة فلسطينية صغيرة في طريق عودتها من المخيم للمدرسة . وحتماً ما كان لدرويش أن يبدع وقتها .. أزدادت نبضات قلبي حين سمعت صراخ مريض في الغرفة المجاورة . قلت لنفسي مادام باستطاعته الصراخ ، فهذا يعني أن رئته سليمة وفي جسده من الأكسجين ما يكفي للصراخ . ليتني استطيع حتى أن أصرخ . فقط أحتاجُ لفقاعةٍ صغيرة من الأكسجين كي أفكر ببلادي التي تركتها تحتضر مثلي . لابد أن الأكسجين هنالك في متناول الرئة ، فالهواء الطبيعي بقريتي لا يحتاج لهذا الأنبوب .. تذكرتُ النسيم المنبعث من ناحية النيل قبل المغيب .. تتحرك الأشجار السامقة بفرحٍ ملوحةً يديها لعصافيرَ رجعت لتوها لأعشاشها . وهنالك عشبٌ صغير أعلن وجوده من شقوق الأرض ومد عنقه ليقبّل ذلك النسيم .. على مقربة من هذا ماعزٌ وأغنامٌ تتنفس بسهولة وهي تلحق بالراعي شوقاً لصغارهم الذين ينتظرونهم في الحظائر .. وهنالك عصفورٌ صغيرٌ يلاحق جرادةً صغيرة وهما يتنفسان مثلهما ومثل صغار السمك الذي يمرح في الضفاف إبتهاجاً بحلول المساء . صعبٌ أن تتنفس كل تلك الكائنات بيسرٍ وسهولة ، وأنا أكابد هنا في غربتي من أجل الحصول على نَفَسٍ صغير أسدُّ به رمق احتضاري .. تذكرت (حِمّيد) .. أترى هل تألم قبل موته !! هل كانت رئته تعمل بشكلٍ طبيعي مثلها ومثل قلبه ؟ وأي عضوٍ في جسده خذله أولاً ؟ كيف تخذلنا أعضائنا ونحن الذين نظل نمدهم بالطاقة والحياة طوال حياتنا .. ماذا لو تحدى حِمّيد موته وانتصرت أعضاؤه معلنةً حياةً جديدة غير آبهة لموته المنتظر !! بماذا كان يفكر قبل رحيله ، هل كان يدري أنني سأموت خلفه وأن جثته كانت جثتي المبكرة . أين ذهبت آخر ذرة أكسجين منبعثةً من زفيره ؟!! فقط أحتاج هذه الزفرة وهذه الفقاعة الصغيرة من الأكسجين .. أحتاجها فقط لأنها آخر ما كان ينطق به حِمّيد قبل رحيلة . ليتني استطيع أن أتحصل عليها لكي أتنفس بها وأعيش بها وتبقى خلاصي الوحيد . ثم تذكرتُ مقولة خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قال على فراش الموت : (وها أنا ذا أموتُ كما يموتُ البعير) . أتراهُ كان يهزأ ويسخرُ من موته ، أو يسخر من موته بهذه الطريقة بعيداً عن ساحات المعارك وهو فارسها الذي خبِر دروبها وخبرته !!؟ لا أعلم نواياه ، ولكن في لا شعور نصّه إعتراف بمذلة الإنسان حين احتضاره وموته كالبعير .. إحتضار البعير وموته بعيداً عن قطيعه شيءٌ مذل ويدعو للشفقه . كلما قلّت نسبة الأكسجين داخل رئتي ، تذكرت سيدنا آدم .. الرئة الأولى في الوجود .. الشهيق الأول والزفير الأول .. هل إحدى عشر يوماً تكفي لإحتضار رجلاً عاش تسعمائة وست وثلاثون سنة ؟؟ لم يكن هو أول من مات ، فأبنه هابيل الشهيد الأول والقتيل الأول .. بماذا كان يشعر سيدنا آدم وهو يستنشق الأكسجين الأول ؟ حسدتُه على ذلك .. ملايين من ذرات الأكسجين لرئتيه فقط .. بحرٌ ممتد من الهواء النقي لشخصٍ واحد .. هل لو كنت مكانه في ذلك الوقت سأعاني من هذا الشيء ؟ هل ستخذلني رئتي ويُعييني التنفس !!؟ ليتني كنت محله في هذا الموقف فقط ، دون أن أتحمل وزر البشرية ودون أن أُفجع بمقتلِ هابيل .. مسكينٌ هابيل هذا .. الضحية الأولى والمحتضِر الأول .. أول من خذلته رئته .. ومن خذلته بشريّته في الخلود . تراهُ ماذا سيفعلُ لو أمهله قابيل بعض الوقت ليتنفس بعض الهواء الخالي من عوادم السيارات وزيف المدينة ؟ هل كان يفكر في محبوبته التي حُظيَ بها قاتله عنوةً !!؟ وهل بكته حبيبته التي قُتل من أجلها أم نسيَته بعد أول قبلةٍ من أخيه القاتل ؟؟؟ حمدتُ الله أنني لم أكن هابيل مع أنني ما كنتُ سأرضى كوني قابيل . مرةً أخرى تذكرتُ محمود درويش : (يموتُ الجنودُ مراراً ولا يعلمون إلى الآن من كان منتصرا) شقيقي (محمد يس) مات جندياً ولم يعلمْ أي من الفرقتين إنتصر . ليته علِمَ أن كل الطرفين منهزم وأن تجار السلاح هم الرابحون . مات قرباناً لحربٍ يصدر قادتها التعليمات من قصرهم دون أن يفكروا في رئات الجنود التي أختنقت من رماد الحروب بين الشمال والجنوب . دمعت عيني الجاحظة حين تذكرت (محمد يس) .. لعلها الدمعة الأخيرة التي كان يقصدها (حِمِّيد) : (شِهْدَت سحابه الَّلَتْ بلد - عِزْ الربيع - إنو الجميع قَبَّال يموتو ، بَدَمِّعُوا) وتسآلت ذات السؤال الذي استعطف به (حِمّيد) قادة الحرب : (مُشْ كلّهم طِينات غلابه علي غلابه ووقُّعوا !!!! ؟؟) قلت (إذا لماذا) في نفسي ، كما قال هو : (الغبا خَرَابه فها الحَرَابه تمن عذابا بَلانا مين البدفعوا ؟) إذاً هكذا يموتون .. للحظةٍ ما ، شعرتُ أني منفصلُ عن جسدي . لا أكاد أشعر بأطرافي .. ماذا لو لم أكن أنا الذي يصارع الآن للحصول على ذرة واحدة من الأكسجين !! (لعلي واحدٌ غيري) ربما أنا الآن جالسٌ ببيتنا في السودان .. أتنفس ملء رغبتي وملء بلادي . تماماً كفراشٍ يلقي تحيته الصباحية على زهرةٍ يتيمة . - (are you ok ?) قالتها الممرضة الفلبينية بما يمليه عليها واجبها ، لا بما تمليه عليها رغبة الإطمئنان على صحتي . لم أكن في وضعٍ يؤهلني للإجابة عليها .. ولم تنتظرني لأجيب . ناجيت السماء التي تهتم لأمري : أحتاجُ أن أتنفس .. إلهي ، لا أمنيات لدي في هذه اللحظة غير التنفس . فقط أحتاجُ أن أكمل تثاؤبي بطريقةٍ طبيعية دون الحوجة لهذه الأنبوبة التي أشعر أن الممرضة الفلبينية تمنُّ عليَّ بها . إلهي .. خذ كل ما أملك من أحلام وأماني وأعطني نفساً واحداً . تحتاج رئتيا لقليلٍ من الحياة ، ربما أحتاجت فراشةٌ ما لمن يعالج لها جناحها المهيض .. أو ربما أحتاج غريبٌ ما لقصيدةٍ تعبّر عن حنينه لبلاده . وربما أحتاج شعبٌ ما لمقاومة النظام .. إلهي ، كيف سمعت تنهدات طفل صغير تحت أنقاض الحروب ، ولم تجبه ! كيف لم تصلك تنهدات غريقٍ تعلّق بك !! ساعدني إلهي في التنفس وأرجع لي نعمة الأكسجين . أريد أن أعانق أمي حين أرجع لها لأتأكد من بقائي على قيد الحياة .. وأريد أن أحمل عن أبي عبء الحياة وأن أعانقه . أريد أن أقول لزوجتي أنني محتاجٌ لها وأن رئتي في حوجةٍ لأنفاسها . أريد أن أصافح أخوتي وأن أنام بقربهم . أريد أن أكتب قصيدةً جديدةً ياربي . وأريد أن أرثي (حِمّيد) . نزعت عني الممرضة الفلبينية قناع الأكسجين .. وكانها تبعدني عن حضن أمي . تساءلتُ : هل يوجد أكسجين بالفلبين !!؟ ولماذا لا تضع الممرضة الأكسجين على فمها طالما تمتلك كل هذه الأنابيب ؟ ثم نظرتُ لأنابيب الأكسجين الكبيرة المصفوفة بجانبي . تذكرتُ نكتة الشحاذ الفقير الجائع حين مرّ على بائع الخبز وقال له : - هل تملك كل هذا الخبز ؟ - نعم . - هل يمكنك أن تأكل منه وقتما تشاء ؟ - نعم . - إذا لماذا لا تأكل منه الآن !!

معز عوض أبو القاسم مستشفى الملك فهد 1 ديسمبر 2018م - 2 صباحاً

 
 
 

Comments


معز عوض أبو القاسم

للتواصل مع الكاتب

00249922226537

السودان - ود مدني - العريباب

  • White Twitter Icon
  • White Facebook Icon
  • White Instagram Icon

© 2022 by MOIZ AWAD

bottom of page